فصل: شبهة والردُّ عليها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام



.وجوه القراءات:

أولاً: قوله تعالى: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} قرأ الجمهور: {وامرأةً} بالنصب عطفاً على مفعول (أحلَلْا) و(إنْ وهبت) بكسر الهمزة شرطية، وقرأ أبو حيْوة (وامرأةٌ مؤمنةٌ) بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف أي أحللناها لك.
وقرأ الحسن: {أنْ وهبت} بفتح الهمزة وتقديره: لأن وهبت نفسها للنبيّ.
ثانياً: قرأ نافع وحمزة والكسائي: {تُرجي} بغير همز، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: {تُرْجئ} مهموزاً والمعنى واحد.
ثالثاً: قرأ ابن محيصن، والجوْني {أنْ تُقِرّ} بضم التاء وكسر القاف {أعينَهُن} بنصب النون، وقرأ الجمهور: {أنْ تَقَرّ أعينُهنّ} فالأولى من (أقرّ) الرباعي، والثانية من (قرّ) الثلاثي فتنبه.
رابعاً: قوله تعالى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء} قرأ الجمهور: {يحلّ} بالياء، وقرأ أبو عمرو (تَحلّ) بالتاء.
قال ابن الجوزي: والتأنيث ليس بحقيقي، إنما هو تأنيث الجمع، فالقراءتان حسنتان.

.وجوه الإعراب:

أولاً: قوله تعالى: {اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} اللاتي: اسم موصول للمؤنث في محل نصب صفة لقوله (أزواجك) و(أجورهنّ) مفعول ثانٍ لآتيت لأنها بمعنى أعطيت، والمفعول الأول محذوف تقديره: آيتتُهنّ.
ثانياً: قوله تعالى: {وامرأة مُّؤْمِنَةً} في نصب (امرأةً) وجهان:
أحدهما: أن يكون منصوباً بالعطف على قوله (أزواجَك) والعامل فيه (أحللنا).
والثاني: أن يكون منصوباً بتقدير فعل، وتقديهر: ونُحلّ امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، وليس معطوفاً على المنصوب ب (أحللنا) لأن الشرط والجزاء لا يصح في الماضي، ألا ترى انك لو قلت: إن قُمتَ غداً قُمتُ أمسِ، كنت مخطئاً.
قال أبو البركات بن الأنباري: وهذا الوجه أوجه الوجهين.
ثالثاً: قوله تعالى: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا} هنا شرطان، والثاني في معنى الحال، والمعنى: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تنكحها، وإذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ، متقدّم في الوقوع ما لم تدلّ قرينه على الترتيب، أفاده أبو حيان.
رابعاً: قوله تعالى: {وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} كلُّهُنَّ: مرفوع لأنه توكيد لنون النسوة في (يرضين) وليس توكيداً للضمير في (آتيتهنّ) ومعنى الآية: ويرضين كلّهنّ بما آتيتهن.

.الأحكام الشرعية:

الحكم الأول: هل يجوز النكاح بلفظ الإجارة أو الهبة؟
لا خلاف بين الفقهاء على أن عقد النكاح ينعقد باللفظ الصريح. وهو لفظ (النكاح أو الزواج) وبكل لفظ مشتق من هذه الصيغة، إذا لم يقصد به الوعد لقوله تعالى: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] ولقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه» فصيغة النكاح والتزويج وردت في الكتاب والسنة. وهي من الصيغ الصريحة في النكاح.
وقد اتفق الفقهاء أيضاً على أنّ ألفاظ (الإباحة، والإحلال، والإعارة، والرهن والتمتع) لا يجوز بها عقد النكاح. ومثلها لفظ (الإجارة) فلا يجوز به عقد النكاح عند جمهور الفقهاء.
وقال أبو الحسن الكرخي: يجوز بلفظ الإجارة لقوله تعالى: {اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} وحجته أن الله عز وجل سمّى المهر أجراً. والأجر يجب بعقد يتحقق بلفظ الإجارة، فيصح به النكاح.
الرد على الكرخي:
والجواب: أنّ معنى (الإجارة) يتنافى مع عقد النكاح. إذ النكاح مبني على التأبيد. والتوقيقُ يبطله. وعقد الإجارة مبنيٌ على التوقيت. حتى لو أطلق كان مؤقتاً ويتجدّد ساعة فساعة. فكيف يصح جعل ما هو موضوع على التوقيت دالاً على ما يبطله التوقيت؟
ومن جهة ثانية فإن الإجارة عقد على لامنافع بعوض، والمهر ليس مقابل العوض. بل هو عطية أوجبها الله تعالى إظهاراً لخطر المحل. ولذلك يصحّ النكاح مع عدم ذكر المهر. ويجب مهر المثل بالدخول. ولا يصح النكاح بلفظ الإجازة حتى لا يلتبس الأمر بعقد المتعة الباطل. ولهذا لم يوافق أحد من فقهاء الحنفية الكرخيَّ فيما ذهب إليه.
أما النكاح بلفظ الهبة فقد أجازه الحنفية. ومنعه جمهور الفقهاء.
أدلة الحنفية:
استدل الحنفية على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة بما يلي:
أ- قوله تعالى: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا} ووجه الاستدلال أنّ الله عز وجل وسمّى العقد بلفظ الهبة نكاحاً فقال: (أن يستنكحها) فدلّ على جواز النكاح بلفظ الهبة، وإذا جاز هذا للنبي صلى الله عليه وسلم فقد جاز لنا أيضاً لأننا أمرنا باتباعه والإقتداء به.
ب- وقالوا أيضاً: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأمتَّه في عقد النكاح بلفظ (الهبة) سواء. وخصوصيتُه التي أشارت إليها الآية الكريمة: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين} إنما هي في جواز النكاح بدون مهر بدليل قوله تعالى في آخر الآية: {لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} وذلك يشير إلى أنّ الخصوصية دفعت حرجاً، والحرجُ إنما يكون في إلزام المهر؛ لأنه يلزمه مشقة السعي في تحصيل المال، وهو عليه السلام مشغول بشؤون الرسالة، وليس ثمة حرج أن يكون العقد بلفظ النكاح أو التزويج فتكون الخصوصية له عليه السلام في النكاح بدون مهر.
ح- وقالوا: مما يؤيد هذا ما روي عن عائشة أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صلى الله عليه وسلم وتقول: (ألا تستحيي أن تعرض نفسها بغير صداق)!! فلما نزل قوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ...} إلى قوله: {فَلاَ جُنَاحَ} قالت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقد تقدّم الحديث.
د- واستدلوا بحديث سهل بن سعد: «أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله: جئت لأهب نفسي لك.. وفيه فقام رجل من الصحابة فقال يا رسول الله: إن لم تكن لك بها حاجة فزوِّجْنيها، وذكر الحديث إلى قوله: إذهب فقد مَلّكتكها بما معك من القرآن».
ففي هذا الحديث أنه عقد له النكاح بلفظ التمليك. والهبة من ألفاظ التمليك. فوجب أن يجوز بها عقد النكاح. فلكُّ ما كان من ألفاظ (الإباحة) لم ينعقد به عقد النكاح قياساً على المتعة، وكلُّ ما كان من ألفاظ (التمليك) ينعقد به عقد النكاح قياساً على سائر عقود التمليكات.
حجة الجمهور:
واستدل الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة) على عدم جواز النكاح بلفظ الهبة بما يأتي:
أ- أنّ الله تعالى خصّ رسوله بهذه الخصوصية، وهي جواز النكاح بلفظ الهبة بدون مهر فقال جل ثناؤه: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين}.
فقوله تعالى: {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} وقوله: {خَالِصَةً لَّكَ} دليل على أنّ إحلال المرأة عن طريق الهبة إنما كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى: {مِن دُونِ المؤمنين} فالخصوصية له عليه السلام كانت بالهبة (لفظاً ومعنى) لأنّ اللفظ تابع للمعنى.
ب- وقالوا: ما كان من خصوصياته عليه السلام، فلا يجوز أن يشاركه فيها أحد.
والآية دلت على أن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم أي أن النكاح بدون مهر، وبلفظ الهبة معاً، من خصائصه عليه السلام، فمن أين لكم الخصوصية في المعنى دون اللفظ؟ ومن أين لكم أنه يجوز عقد النكاح لغير النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة مع إيجاب المهر؟
ج- وأما استدلال الحنفية بحديث (سهل بن سعد) أن النبي عليه السلام زوّج الصحابي بلفظ التمليك بقوله: «اذهب فقد ملّكتُكها بما معك من القرآن» فليس فيه ما يدل لهم، فقد جاء في بعض الروايات: «اذهب فقد زوّجتُكها» وليس كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح. فلفظ الإجارة يدل على التمليك ومع ذلك لا ينعقد به النكاح باتفاق.
الترجيح: أقول: أدلة الحنفية كما بسطها الإمام (الجصاص) وإن كانت قوّية، إلاّ أنّ النصّ ورد بالخصوصية للرسول عليه السلام في (نكاح الهبة) والظاهر أنّ المراد منه (اللفظ والمعنى)، وحمله على لامعنى دون اللفظ يحتاج إلى دليل. وصيَغُ النكاح لا يجري فيها القياس، فما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح كما قال الإمام مالك رحمه الله: إنّ الهبة لا تحل لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إن كانت هبة نكاح، والله أعلم.
الحكم الثاني: هل الهجرة شرط في النكاح؟
ظاهر الآية الكريمة يدل على أنّ من لم تهاجر معه من النساء لا يحلّ له نكاحها لقوله تعالى: {اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} الآية وإلى هذا الظاهر ذهب بعض العلماء، قال القاضي أبو يعلى: وهذا يدل على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يحلّ له نكاحها، قالت أم هانئ بنت أبي طالب: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، ثم نزلت هذه الآية: {إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} إلى قول: {اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ} قالت: فلم أكن لأحلّ له، لأني لم أهاجر معه، كنتُ من الطّلقاء.
وجمهور المفسرين على أن الهجرة ليست بقيد ولا شرط، وإنما هي لبيان الأفضل. كما في قوله تعالى: {اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} فالآية ذكرت الأصناف التي يباح للرسول صلى الله عليه وسلم أن يتزوج منها، وبيّن ما هو أفضل له وأكمل، فكما أنّ ذكر (الأجور) ليس للقيد وإنما هو لبيان الأفضل فكذا هنا.
قال أبو حيّان: (والتخصيص باللاتي هاجرن معك، لأنّ من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات، وقيل: شرط الهجرة في التحليل منسوخ).
وحكى المارودي في ذلك قولين: أحدهما: أن الهجرة شرط في إحلال النساء له على الإطلاق.
والثاني: أنه شرط في إحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات.
الترجيح: والصحيح ما ذهب إليه جمهور المفسّرين أن تقييد القريبات بكونهنّ مهاجرات لبيان الأكمل والأفضل.
الحكم الثالث: هل كان عند النبي امرأة موهوبة؟
ذهب أكثر العلماء إلى أن الهبة وقعت من كثير من النساء، وقد وردت روايات كثيرة منها القوي ومنها الضعيف في أسماء الواهبات أنفسهنّ، منهنّ (أم شريك) و(خولة بنت حكيم) و(ليلى بنت الخطيم) ولكن لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم منهنّ أحد، وقيل (ميمونة بنت الحارث) و(زينب بنت خزيمة) كذلك من الواهبات أنفسهنّ والصحيح هو الأول.
قال أبو بكر ابن العربي: (وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة موهوبة).
قال ابن كثير: اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير، كما قال البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول: أتهب المرأة نفسها؟ فلمّا أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ} قلت: ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك.
الحكم الرابع: هل كان القسم واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه كان يقسم بينهن بالعدل ويقول: «اللهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك» يريد بقوله (ما لا أملك) ميل القلب نحو بعض نسائه كعائشة رضي الله عنها.
واستدلوا بأنّ القسم كان واجباً عليه بأنه عليه السلام كان يستأذن بعض نسائه فيقول: أتأذنّ لي أن أبيت عند فلانه، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة.
وذهب أكثر العلماء على أن هذه الآية الكريمة نزلت مبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم معاشرة من شاء من نسائه دون أن يكون القسم عليه واجباً، ومع ذلك فقد كان يعدل بينهنّ ويسوّي في القسمة.
قال الجصاص: وهذه الآية تدل على أن القسم بينهن لم يكن واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان مخيراً في القسم لمن يشاء، وترك من شاء منهن.
وقال ابن كثير: وذهب طائفة من العلماء من الشافعية وغيرهم، إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه صلى الله عليه وسلم، واحتجوا بهذه الآية الكريمة، وقال البخاري عن معاذ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستأذننا في يوم المرأة منا، بعد أن نزلت هذه الآية: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ} فقلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت كنت أقول: إن كان ذلك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً. والصحيح أن القسم لم يكن واجباً عليه وهو اختيار الجمهور.

.شبهة والردُّ عليها:

لقد درج أعداء الإسلام منذ القديم، على التشكيك في نبي الإسلام، والطعن في رسالته والنيل من كرامته، ينتحلون الأكاذيب والأباطيل، ليشككوا المؤمنين في دينهم، ويبعدوا الناس عن الإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم، ولا عجب أن نسمع مثل هذا البهتان والافتراء والتضليل في حق الأنبياء والمرسلين، فتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
وصدق الله حيث يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31] وقبل أن نتحدث عن (أمهات المؤمنين الطاهرات)، وحكمة الزواج بهن نحب أن نردّ على شبهة سقيمة، طالما أثارها كثير من الأعداء، من الصليبيين، الحاقدين، والغربيّين المتعصبين.
ردّدوها كثيراً ليفسدوا بها العقائد، ويطمسوا بها الحقائق. ولينالوا من صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله، صلوات الله عليه.
إنهم يقولون: لقد كان محمد رجلاً شهوانياً، يسير وراء شهواته وملذاته، ويمشي مع هواه، لم يكتف بزوجةٍ واحدة أو بأربع، كما أوجب على أبتاعه، بل عدّد الزوجات فتزوّج عشر نسوةٍ أو يزيد، سيراً مع الشهوة، وميلاً مع الهوى! كما يقولون أيضاً: فرقٌ كبير وعظيم بين عيسى وبين محمد، فرقٌ بين من يغالب هواه، ويجاهد نفسه كعيسى بن مريم، وبين من يسير مع هواه، ويجري وراء شهواته كمحمد {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5].
حقاً إنهم لحاقدون كاذبون، فما كان محمد عليه الصلاة والسلام، رجلاً شهوانياً، إنما كان نبياً إنسانياً، تزوّج كما يتزوّج البشر، ليكون قدوة لهم في سلوك الطريق السويّ، وليس هو إلهاً، ولا ابن إله- كما يعتقد النصارى في نبيّهم- إنما هو بشر مثلهم، فضّله الله عليهم بالوحي، والرسالة {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ...} [الكهف: 110].
ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه بدعاً من الرسل، حتى يخاف سنتهم، أو ينقض طربقتهم، فالرسل الكرام قد حكى القرآن الكريم عنهم بقول الله جلّ وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً...} [الرعد: 38].
فعلام إذاً يثيرون هذه الزوابع الهوج في حقّ خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام؟
ولكن كما يقول القائل:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رَمَد ** وينكر الفم طعم الماء من سقم

وصدق الله حيث يقول: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46]
ردُّ الشبهة:
هناك نقطتان جوهريتان، تدفعان الشبهة عن النبي الكريم، وتلقمان الحجر لكل مقتر أثيم، يجب ألاّ يغفل عنهما، وأن نضعهما نَصْبَ أعيننا حين نتحدث عن أمهات المؤمنين، وعن حكمة تعدّد زوجاته الطاهرات، رضوان الله عليهن أجمعين.
هاتان النقطتان هما:
أولاً: لم يعدّد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم زوجاته إلا بعد بلوغه سنَّ الشيخوخة أي بعد أن جاوز من العمر الخمسين.
ثاناً: جميع زوجاته الطاهرات ثيبات (أرامل) ما عدا السيدة عائشة رضي الله عنها فهي بكر، وهي الوحيدة من بين نسائه التي تزوجها صلى الله عليه وسلم وهي في حالة الصبا والبكارة.
ومن هاتين النقطتين ندرك- بكل بساطة- تفاهة هذه التهمة، وبطلان ذلك الادعاء، الذي ألصقه به المستشرقون الحاقدون.
فلو كان المراد من الزواج الجريَ وراء الشهوة، أو السيرَ مع الهوى، أو مجرد الاستمتاع بالنساء، لتزوّج في سنّ (الشباب) لا في سنّ (الشيخوخة) ولتزوج (الأبكار الشابات)، لا (الأرامل المسنّات)، وهو القائل لجابر بن عبد الله حين جاءه وعلى وجهه أثر التطيب والنعمة: «هل تزوجت؟ قال: نعم، بكراً أم ثيباً؟ قال: بل ثيباً، فقال له صلوات الله عليه: فهلاَّ بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك»؟
فالرسول الكريم أشار عليه بتزوج البكر، وهو عليه السلام يعرف طريق الاستمتاع وسبيل الشهوة، فهل يعقل أن يتزوج الأرامل ويترك الأبكار. ويتزوج في سن الشيخوخة، ويترك سنّ الصّبا، إذا كان غرضه الاستمتاع والشهوة؟!
إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفدون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمهجهم وأرواحهم، ولو أنه طلب الزواج لما تأخر أحد منهم عن تزويجه بمن شاء من الفتيات الأبكار الجميلات، فلماذا لم يعدّد الزوجات في مقتبل العمر، وريعان الشباب، ولماذا ترك الزواج بالأبكار، وتزوّج الثيبات؟
إنّ هذا- بلا شك- يدفع كل تقوّل وافتراء، ويدحض كل شبهة وبهتان. ويردّ على كل آفّاك أثيم، يريد أن ينال من قدسية الرسول، أو يشوّه سمعته فما كان زواج الرسول بقصد (الهوى) أو (الشهوة) وإنما كان لحكم جليلة، وغايات نبيلة، وأهداف سامية، سوف يقر الأعداء بنبلها وجلالها، إذا ما تركوا التعصب الأعمى، وحكّموا منطق العقل والوجدان. وسوف يجدون في هذا الزواج (المثل الأعلى) في الإنسان الفاضل الكريم، والرسول النبي الرحيم، الذي يضحّي براحته في سبيل مصلحة غيره، وفي سبيل مصلحة الدعوة والإسلام.